محاور في المقام العراقي / المحور الثامن عشر

المقاله تحت باب  في الموسيقى والغناء
في 
06/01/2010 06:00 AM
GMT



1 -  الطريقة القبانجية

2 -  تأثيرات جمالية

3 -  افكار الطريقة الغنائية

4 -  مهمة نقاد الموسيقى

5 -  اسلوب المغني الخاص

6 -  النظرية والتطبيق

 

(1)

الطريقة القبانجية

         تكون هذه الطريقة بصورة او باخرى , حلقة الوصل المناسبة للانتقال الى حقبة اخرى تالية تغيرت فيها معظم هذه السمات مع تطور شؤون الحياة بصورة عامة , حتى اخذت بالافول ليتوقف رويدا رويدا مدَّها الجارف بظهور المطرب المقامي المعجزة محمد عبد الرزاق القبانجي الذي اسس بعدئذ طريقة جديدة (الطريقة القبانجية) مكملاً ما انجزته الطريقة القندرجية قبله ، بمزيد من الثقة والنضوج الفكري والفني ، حتى اصبح هو واتباعه اكثر انتشارا وتسجيلاً للمقامات بحكم الحقبة التي تطورت فيها الحياة الصناعية وغيرها من شؤون الحياة .. فمغنين امثال عبد الهادي البياتي (1911-1974) وحسن خيوكة (1912-1962) ومجيد رشيد (1915-1982) ويوسف عمر(1918م1986) وناظم الغزالي (1921م1963) وعبدالرحمن العزاوي (1928م1983) وهم ممن تأثروا بطريقتي رشيد القندرجي ومحمد القبانجي , استطاعوا ان يعطوا زخما ابداعيا جديدا مستقى من استاذيهما القندرجي والقبانجي للمقام العراقي في فترة انتصاف القرن العشرين ، او بالاحرى في (حقبة التجربة) .. الواقعـــــة بين منتصف الثلاثينات ومنتصف الستينات من القرن العشرين ..

         يتضح لنا عندما نناقش هذه الامور بشيء من التفصيل , ان رشيد القندرجي ومعاصريه ومن اتباع طريقته , قد خدموا مدة مراسهم , الغناء المقامي من خلال مقومات هذه الطريقة .. فقد تأثر رشيد القندرجي بسلفه احمد الزيدان (1832م1912) مؤسس - الطريقة الزيدانية – في الغناء المقامي ببغداد ومن كان معه من المعاصرين الكبار امثال خليل رباز وحمد بن جاسم وغيرهما .. فقد استطاع رشيد القندرجي واتباعه التعبير بقوة عن الحقائق التاريخية للمقام العراقي , وكذلك استطاع السيطرة على واقع الطرق الغنائية الكثيرة وتوحيدها في طريقة سادت الاوساط المقامية ردحا من الزمن ..

 

(2)

تأثيرات جمالية

        ما ان وضعت الحرب العالمية الاولى اوزارها (1914م1918) حتى بدات تأثيراتها الفكرية والجمالية تتغلغل في كيان فناني العراق عامة .. وهكذا اعلن ايضا عن بدء ولادة جديدة لحركة اسلوبية في الغناء المقامي قادها المطرب محمد القبانجي بكل قوة , تلك الحركة التي تمخضت عنها طريقته الجديدة (الطريقة القبانجية) في الغناء المقامي التي طورت معظم السمات الفنية التي كانت مناسبة للطريقة القندرجية في حقبتها ..

         لقد تمسَّك المغنون القندرجيون باصول غناء المقام العراقي , وحاولوا ايجاد لغة اسلوبية لغنائهم , فكان لهم ذلك بواسطة استاذهم المخضرم رشيد القندرجي , ويجب الاعتراف ان تأثيرهم خارج العراق كان ضعيفا ..!! ولكن ليس بسبب خلل في هذه الطريقة , بل بسبب حجم التطور الصناعي الذي لم يكن يكفي للانتشار .. وهو ارجح الظن .. حيث لم تكن هناك علاقات ثقافية تكفي , اوعلاقات فنية قوية بين العراق وباقي البلدان المجاورة .. إلا أن خميرة هذه الطريقة , كان قد استفاد منها محمد القبانجي واتباعه من المغنين في حقبتهم .. من حقبة التحول حتى حقبة التجربة التي كان حجم التطور الصناعي والظروف الاخرى  فيها اكبر كالاعلام والثقافة والسياسة وغيرها ..

        نظرا لما بدأ به القرن العشرون  في العراق من نهضة غناسيقية واضحة , كانت من ظواهرها الطريقة القندرجية , واستلمت منها الطريقة القبانجية واستمر الامر بالتطور حتى وقتنا الحاضر .. فقد كانت هذه تجربة المغنين .. احساسهم .. تصورهم .. تضامنهم .. ثقافتهم .. تطلعاتهم .. وهذا هو المهم في النهاية ..   

         هكذا بدأ مغنون ابداعيون خرجوا من صلب الطريقة القبانجية في تسجيل مقاماتهم الغنائية باصواتهم الجميلة وافكارهم النيرة ، مستقين كل ذلك من حقبتهم الثقافية واشعاعات الطريقة القبانجية التي اقتنعوا بها واتبعوها بالتعبير عن احاسيسهم الخاصة , ومنهم يوسف عمر وعبدالرحمن العزاوي وعبد الرحمن خضر(1925-1984) وغيرهم , وكل منهم بحاجة الى دراسة مفصلة .. وفي شأن هؤلاء المبدعين , في حوزتي عزيزي القارىء مجموعة من الكتب المخطوطة , احدها اسميــته (الاربعة الكبار في المقام العراقي) اتمنى ان يكــون بين يديك ان شاء الله..

 

(3)

افكار الطريقة الغنائية

       الفنانون المقاميون والنقاد الموسيقيون والكتاب والباحثون ، يولون اهتماما واضحا لطرق الاداء ..! وفي ذلك بعض المحاذير .. اذ لا يبعث ذلك على الارتياح دائما ، لأننا على الدوام امام ضرورة اللحاق ومواكبة سرعة الحياة ومواجهة تحولات وتغيرات الموضة ، ان كانت هذه الموضة قصيرة الاجل ام طويلة الاجل نسبيا. رغم انها اصبحت في عصرنا الراهن تميل نحو السرعة بطبيعة تغيرات وتحولات المرحلة .. وفي نهاية الامر فإننا لا نحصل على شيء مفيد نسبيا ، او لا نحصل على شيء بما فيه الكفاية .. ومع ذلك فإننا نستطيع ان نحصل على بعض الايجابيات الاولية .. اهمها النقاشات والدراسات المستمرة حول موضوع الطريقة واللغة الاسلوبية للاداء .. انه من الواجب علينا دراسة اساليب ولغة اداء المدارس الفنية من غناء وموسيقى المقام العراقي ، وكذلك الامر لدراسة الطرق الفردية في غناء المغنين فنيا من خلال دقة الملاحظة والامكانيات التي يمتلكها المغني , وامكانية التكيُّف السريع مع ظروف التطور والتحول والتغير ..

        ان المواقف والاراء في اكثر المناقشات تعتمد على التقاليد 1* ورغم ان هذه التقاليد عريقة ومخضرمة في الفنون عامة والغناء الموسيقي خاصة بلا ريب .. إلا أننا يجب ان نميِّز بوضوح بين الموضوع الغناســــيقي ومهمات كل فن من الفنون الاخرى المتشابهة منها والمختلفة على حد سواء.

         ان اللغة الاسلوبية تنظم الافكار وتنشط الامكانيات ، الفردية بالنسبة للفنان المبدع , والجماعية بالنسبة للمدارس الغنائية والتيارات الجمالية .. بحيث تصبح هذه المواصفات ، شرطا من الشروط الواجب توفرها لدى الفنان .. لأن المفاهيم تتكون عبر المواد الاولية للغناء .. ويصبح التفكير الحقيقي مستحيلا دون مفاهيم .. وعليه فإن لغة الاساليب الغنائية تتطور في المجتمع بمرور الزمن وتتطور الثقافة والمعرفة لأنها ضرورية للفنان للتعبير عن الافكار ومن ثم تكوين الآراء وتبلورها ..

         وفي هذه الناحية ، نجح المغنون القندرجيون كما يبدو .. بتطوير تلك المباديء الغنائية المقامية التي ارسى دعائمها استاذهم المغني الحاذق رشيد القندرجي ، والمتعلقة بفهم الطريقة ولغة اسلوبها .. رغم عفوية هذا الفهم في الاعم الاغلب .. فقد دافع كل منهم في غنائه للـمقام العراقي وبواسطة هذا الغناء ، عن ان الاسلوب الممَّيز للطريقة القندرجية مرتبط ارتباطا وثيقا بامكانيات كل مغن منهم ، الفكرية والجمالية والثقافية ، بحيث تنطوي عليه طموحات كل منهم الرامية الى التأثير في الذوق الاجتماعي بصورة معينة .. وهذا ما نلاحظه مثلا عند سماعنا للمقامات المسجلة باصوات عبد القادر حسون وشهاب الاعظمي واحمد موسى والحاج هاشم الرجب وغيرهم ممن تمسكوا بالطريقة القندرجية برصانة ادائهم وجماليته ، وبذوق تعبيري وكانك في حضرة غناء وتعابير القرن التاسع عشر .. حيث ينظر للحياة بمنظار وطني يعتمد الانطلاق من الجذور والتمسك بها والنظر الى متسع الحياة بتفائل وامل واحلام ..

        ان المقام العراقي ، باعتباره فورما غناسيقيا تراثيا ، تظهر قيمته الفنية من مفردات مواده الاولية ، ونقصد بها ، المكونات الشكلية والمحطات السلَّمية الموجودة في كل مقام عند غنائه والطابع المميز لهذه المكونات وبناء العلاقات المتينة لحنيا لكل عناصر الشكل المقامي برمته .. هو بمثابة الارضية التي تنبت عليها التعابير والصور والخيالات والافكار ومن ثم الاسلوب المميز .. وعليه فإن هذا يفضي بنا الى فهم جديد ودقيق وامين لهذه الخيالات والصور والافكار .. فالشيء المهم في الامر .. هو فهم العملية الادائية بصورتها المتكاملة .. فقد اهمل المؤرخون المتخصصون عندما تحدثوا عن تاريخ المقام العراقي وعن تفصيلاته الفنية الاخرى , دراسة الطرق والاساليب الغنائية وتناولوا العملية الادائية وتفصيلاتها بصورة سطحية غير متعمقة لحقبة زمنية طويلة استمرت الى يوم الناس هذا ، اهمالا بالغا ، وظلت وقفا على القلة القليلة من المغنين المقاميين او من لهم علاقة مباشرة بالمقام العراقي ممن يحسن الحديث عن غنائه المقامي وعن القضية الادائية برمتها .. ولكن دون تدوين لهذه الاحاديث لكونهم ليسوا كتَّابا او مؤلفين ، ومع ان احاديثهم لم تكن كافية بالمعنى الدقيق ، ولكن على الاقل انهم اقتربوا من جوهر القضية الادائية ومضامينها الفنية والعلمية المهمة بالنسبة للمغنين بصورة عامة.

 

(4)

مهمة نقاد الموسيقى

        اما مهمة نقاد الغناسيقي المقامية او النقاد عموما ، والكتَّاب والمؤلفين المتخصصين .. فلا تنحصر في انتقاء الاخطاء المنفردة غير الموفقة – حسب رايهم - في غناء أي مغن مقامي وتحطيمها واخجال مغنيها وفنانيها واحراجهم ، وربما تجاوز الامر الى اكثر من ذلك , فمن واجب الناقد ، او ان الواجب يقتضيه ، فهم طابع مستواه الثقافي وتفكيره الفني وثقافة المرحلة التي يعيــشها ، أي معرفة جوانب القوة والضعف فيه ، ضمن اطار ما يمتلكه من نظام فني خاص ، ان اول مباديء النظرة النقدية للاعمال الفنية تنحصر فيما اعتقد .. في فهمنا العميق لرابطة الاسلوب الغنائي والفكرة الفنية مع فهم رؤية الفنان المغني الحياتية ونظرته للمجتمع وما يجسده كل ذلك في عملية ادائه الغنائي للمقامات ، عندها نستطيع ان نكوِّن نظرة نقدية جيدة في حق أي مغن نقوم بنقد نتاجاته الغنائية ..

        ينبغي اذن ان تنطلق الدراسات ، وتتضمن البحوث والمؤلفات الفنية حول طريقة الغناء ، على اعتبار ان الطريقة الغنائية انعكاسا للاطلاع والاحتكاك الذي يحدث بين طريقة الاداء وبين المجالات الفكرية ، فينبغي دراسة الطريقة الغنائية المقامية وتاريخ المقام العراقي ، بين هذه الحقبة اوتلك لاسلوب الغناء المقامي الدارج ضمن المدرسة البغدادية مثلا او المدرسة الكركوكية او المدرسة الموصلية باعتبارها مدارس غنائية جماعية المنحى ..

 

(5)

اسلوب المغني الخاص

        ان الاسلوب الذاتي للمغني ، في اعتقادي ، يتجلَّى في نظام مزج تفاصيل اسلوبية مختلفة ومتباينة لطريقة الاداء او الطرق المختلفة للغناء المقامي الفني .. ويعتمد كل ذلك على ذوق المغني نفسه .. فيتكوَّن عندئذ من كل هذا التفاعل .. الشكل الذي يتميز به المغني في ادائه ، ومن ثم يمكن ان نصِف لغة اسلوبه الادائية بأنها جديدة او هي خاصة بذلك المغني .. لا تربطها رابطة واضحة بما يجسده هذا التفاعل .. وعلى هذا الاساس ، فنحن نكرر القول ، ان الكاتب والمؤلف او الناقد المتخصص والفنان الغناسيقي عمليا ونظريا .. يستطيع التعبير عن القضية الادائية بعمق وتفصيل ، وكذلك يستطيع الفنان العملي , مغنيا او عازفا , تحسس وادراك الانتقال من المعنى العام الى الفكرة فالاسلوب .. في حين يتوجب على المتخصص النظري ايجاد المعنى العام او رؤيته بواسطة التحليل الدقيق للتفاعل العملي في النتاجات الغنائية ان كان في استطاعته ذلك التحليل , لأنه ليس جليا .. كيف يستطيع الكاتب والمؤلف النظري التحدث عن المعنى العام لقضية الاداء مباشرة دون القيام بتحليل دقيق للتفاعل الاسلوبي الذي يعتبر امتيازا خاصا يتمتع به المتخصص ا

         ورغم ذلك تبقى القضية الادائية التي نتحدث عنها , قضية رئيسية بالنسبة للكتَّاب الغناسيقيين  والمؤلفين جميعا .. فالاسلوب يلعب دورا خطيرا ، والمســتمع المرهف الحس يفهم فهما رائعا كل دقائق الطريقة والاسلوب .. فالفن والعلم يرميان الى فهم وتوضيح قوة الطريقة الغنائية ومعناها ، لأجل استنفاذ الكشف التام عن الافكار والمشاعر والنتاجات  الفنية جميعا في سبيل تربية حاسة المتلقي وارهافها , واذا لم يتحقق هذا .. فإن دراسة الطريقة الادائية والاساليب تبقى دون فائدة تذكر ..

 

(6)

النظرية والتطبيق

          أن الكتابة النظرية عن موضوع حسي وعملي لا بد أن تقـــترن بالمعرفة التطــبيقية .. فالقضية مترابطة دائما , فعزل الطريقة الادائية وتجريدها , يقودنا الى نتائج تشوه جوهر القضية الادائية ..

      ثمة مغنون وعازفون وكتَّاب ومؤلفون ونقاد للموسيقى ، يخيَّل إليهم ، ان هناك اسرار أثناء تأدية الاسلوب ..! ترفدها عوامل عديدة للاستنباط والابداع .. إن مفرده  أسرار , في الواقع تبدو مجازية , لأن المغني الحقيقي لايلجأ الى أية أسرار أو طرق من هذا النمط , أو الى أية مناورة مزيفة .. فهو يعي الحياة كما يعيشها ، ويلتمس الاحتكاك بالجمهور , ومعاشرة ممن هم من اختصاصه .. إنه ينفعل ويغضب ويفرح ويبكي ويكتب ويغني ويفكر بطريقته الخاصة حتى نصل الى حقيقة النتاجات الطبيعية , وبالجهود المستمرة ينمِّي موهبتة التي تفيض بالحياة والغنى الروحي , وتتجلَّى قوَّتها ألرئيسة بهما .. ولهذا السبب فإن اهتمام وانشغال المغنين من أمثال أحمد الزيدان ورشيد القندرجي ومحمد القبانجي بمضامين طرقهم الغنائية , لا يتجلَّى في خلق تأثيرات معينة .. بل في تعميق إهتمامهم بطريقتهم وأفكارها والعمل على كشفها بكامل قوَّتها ليتم الاندماج بين أصالة الذاكرة العفوية وأصالة الذاكرة العقلية الواعية .. لأن ديناميكية النتاج الفني ودراميته في أفكار المغني وبناء طريقته لا يأتي  إلا من خلال التفكير .. ولاغرو في ذلك .. لأن المغني المقامي لايدرس قواعد النتاجات وطريقة أو اسلوب عرضها كما يفعل النحوي مثلا .. ولكنه يدرسها بصورة مغايرة تماما .. إنه يعيها بفطرته وعقله الواعي وغير الواعي .. وعليه يمكن أن نشير الى أن أمثال أحمد الزيدان ورشيد القندرجي ومحمد القبانجي ممن أسسوا طرقا وأساليب غنائية في غناء المقام العراقي كان من شأنها ان كوَّنت لها أتباعا من المغنين , أسسوا بغنائهم الاسلوب وفق الطريقة الخاصة التي فكروا بها بوعي الفطرة ووعي العقل , ونظروا وفهموا الناس والحياة بموجبها .. لقد عاشوا ماقدموا من نتاجات غنائية وغنوا ما عاشوه , لقد عكسوا واقع الحياة وعبروا عنها بكل صدق وامانة ..

 

   

الهوامش

1* التقاليد او التقليدية .. ( traditionalism  ) بمفهومها العام , الاقتصار العاطفي على التراث وخاصة المعتقدات والولاء لها , وهو الاتجاه الذي يرى في الانماط القديمة خير مرشد في تحديد السلوك في الحاضر والمستقبل ولذلك يستبعد التقليديون أي تغيير اجتماعي , وتظهر هذه النزعة كرد فعل لاي نزعة تجديدية لاعادة تنظيم المواد التراثية على اسس رشيدة